التخطيط السليم ومبدأ المشاركة الجماهيرية
التخطيط السليم ومبدأ المشاركة الجماهيرية
التخطيط السليم ومبدأ المشاركة الجماهيرية
الدكتور المهندس كامل ياسرالعبودي ................دكتوراه هندسة معمارية وتخطيط مدن 2024
مقدمة : تشهد محافظة ذي قار(بكل مدنها) حالها حال بقية مدن العراق الاخرى ومنذ أكثر من سنة عملية تحيث للتصاميمالأساسية,ووضع التخطيط المناسب لتوسعها,بهدف أستيعاب الزيادة السكانية وتزايد الطلب على الأراضي من كافة الشرائحوذلك لنفاذ الأراضي المخصصة في المخططات السابقة التي أعدت قبل اقل من عشرة سنوات في حين كان المفروض انتكون المدة لنفاذ تلك التصاميم مابين(25 -30 سنة ). نضع هذا المقال أمام السلطات المعنية (التشريعية والتنفيذية)وأمام الجماهير والمختصين للتذكير بأهمية الحوار والمناقشة لمثل هذه المشاريع التي تحدد مستقبل المدن وخططتنميتها.
المشاركة الجماهيرية
إن المشاركة الجماهيرية ضرورة بكونها عملية منظمة تؤكد على دور المواطنين أفرادا وجماعات في عملية أتخاذ القرارات من خالل مساهمتهم بوسائل متعددة بتوفير المعلومات وتقديم الدعم اللازم لالتخاذ القرار. فالتخطيط عملية تسعى لنقل المجتمع من وضع إلى وضع جديد يفترض فيه إن يكون دائما أفضل من الوضع السابق بمعنى إن عملية التخطيط تسعى لأحداث تغيير وبالتالي قد يقاوم هذا التغيير إذا لم يكن مقبولا من السكان ونابعا من قناعاتهم ومراعيا لحاجاتهم الحقيقية ومن هنا تبرز أهمية المشاركة الجماهيرية "Public Participation" في عملية التخطيط واتخاذ القرار فهي تعزز الشعور بالمسئولية والمساندة وتهيئ النفوس لتقبل التغيير والتطوير وبالرغم من ذلك فإن رفض المخطط كثيرا ما يكون بسبب الدفاع عن مصالح فردية لايمكن مراعاتها في خضم المصالح العامة للمجتمع.
يمكننا القول ان التخطيط الحضري عملية مجتمعية في المقام الأول لأنها بتماس مباشر مع حياتهم والبيئة التي يعيشون بها,مما يستلزم تعزيز دورالأشخاص كأفراد وكمنظمات مجتمع مدني في توفير البنية الأساسية اللازمة لأعدادها,وإداراتها في إطاريحقق الأهداف التي تسعى لتحقيقها.
فالمشاركة الجماهيرية تعكس رغبة المجتمع واستعداده للاندماج والمساهمة الفعالة في جهود تحسين التخطيط وتطويره.
يعتمد النجاح في أقامة المشاريع التنموية اللازمة لبناء المجتمع إلى عوامل عديدة ومن أهمها سلامة التخطيط وحضور المشاركة المجتمعية ,والتي أصبحت تعتبر الحجر الأساس في هذه المشاريع ,حيث أن هذا المفهوم من المسلم به في أدبيات التخطيط منذ سبعينيات القرن العشرين,قد ظهر لأول مرة في قانون تخطيط المدن في بريطانيا عام 1947,والذي ينص على ضرورة التشاور والتحاور مع كافة الأطراف ذات العلاقة بالعملية التخطيطية لأي مشروع , وهو ما دفع بالهيئات التخطيطية في العديد من الدول إلى تخصيص جزء من ميزانية المخططات لتفعيل برامج المشاركة المجتمعية في التخطيط بالإضافة إلى جعلها من ضمن متطلبات إصدار التراخيص واعتماد المخططات.
هذه المشاركة تحقق مصلحة متبادلة ونتائج ايجابية للفرد والمجتمع على حد سواء,فهي تنمي الشعور بالمسؤولية وتزيد من ثقة المواطنين في مؤسساتهم المحلية وتفعل مبدأ الشورى الذي تحض عليه الشريعة الإسلامية والتي تنبع أهميّتها في تحقيقِ التواصل ما بين الرؤساء والمسؤولين وبين أبناء الشعب،وبالتالي يشعر المواطنون بأنهم على صلةٍ مع من يقومون بتنظيمِ أمور حياتهم، كما أنه يتم التوصل إلى القرارات الأقرب للصواب؛ فعند أخذ آراء ناسٍ متعددين أفضل من التفرّد برأي شخصِ واحدٍ، لأن الإنسان عقله لا يمكن أن يحيط بجميع الأمور معا في الوقت نفسه. والشورى في الإسلام حق للأمة وواجب على الحاكم، وهي نظام سياسي واجتماعي، وحلقة وصل بين الحاكم ورجاله. والشورى مبدأ أساسي من مبادئ الإسلام، وليس هذا فحسب، بل إن الإسلام جعلها من صفات المؤمنين الصالحين، حتى إنها وردت في السياق القرآني الكريم بين ركنين عظيمين من أركان الدين هي الصلاة والزكاة، قال تعالى:{والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون}.(الشورى38).
إن إشراك المجتمع في عملية التخطيط من خلال الحوار يسهل على الجهات المعنية إقناع المجتمع بقبول برامجها التخطيطية في ظل أجواء ديمقراطية حقيقية تكفل لأفراد المجتمع كافة حق المشاركة في اتخاذ القراربخصوص بيئتهم المعيشية دون استثناء أو إقصاء لآي فئة كانت.
من المعلوم أن كل البرامج المتعلقة بالتخطيط العمراني تتضمن تخطيط ومتابعة المشاريع التخطيطية التي تنتهجها الحكومةالمحلية انطلاقاً من الستراتيجيات العامة التي تصاغ لرسم خطط التنمية الشاملة؛ لذا يلزم صياغة برامج متخصصة واضحةالأهداف ترتكز على المشاركة المجتمعية ومبنية على أسس عملية تكون ذات علاقة وطيدة بالملامح العامة لخططالتنمية,وفي قالب مكاني يسهل عملية تحقيق أهداف التنمية التي تضطلع بها البلديات والحكومات المحلية؛ لذا كان منالمفيد إيضاح أهمية تقويم المخططات ألأساسية للمدن وعلاقتها الوطيدة بخطط التنمية الشاملة ودور المشاركة المجتمعيةالفعالة في إعداد المخططات الأساسية للمدن بطريقة منهجية.
التجربة البرازيلية كأنموذج
قدمت البرازيل انموذجاً جديراً بالدراسة لكيفية التحول من نظام سلطوي إلى نظام ديمقراطي، ومن الممكن استخدام هذا النموذج فى الترويج لثقافة العدالة الاجتماعية,والإصلاح العمراني ما هى الأشياء التى يمكن تعلمها من التجربة البرازيلية؟ فيما يلى نقوم باستعراض سريع لتاريخ إصلاح إدارة المدن فى البرازيل بهدف تقديم أفكار تساعد على استعادة “حقهم فى المدينة”, وعلى مواجهة تحديات التنمية العمرانية من خلال المشاركة الفعالة للمواطنين.
تكونت “الحركة القومية للإصلاح العمراني” فى البرازيل عام 1985 بهدف المشاركة فى عملية كتابة الدستور وتغيير اتجاه الرأى العام وكان الهدف الأسمى لتلك الحركة هو ترسيخ الديمقراطية من خلال تعميق مشاركة السكان فى الحكومة والنمو العمراني وتحقيق التواصل بين السكان ومسؤولى ادارة المدن من أجل الخروج ببرنامج للإصلاح العمراني. تلك الحركة، والتى ضمت بين صفوفها نقابات مهنية وأكاديميين وقادة سياسيين وجمعيات أهلية من مختلف أحياء المدينة، حاولت أن تغير أسس التنمية العمرانية فى البرازيل من أجل اقامة مفهوم اجتماعى جديد يجعل من العدالة الاجتماعية محوراً لعملية التخطيط العمراني وصنع القرارات, لم يكن اصلاح إدارة المدن، فى نظر الحركة، مجرد اسلوب لتغيير نسيج المدينة، وإنما كان أيضا وسيلة لتحقيق أهداف العدالة الإجتماعية والمساواة. كان إصلاحا اجتماعياً شاملاً يغطى كافة الأماكن فى المدن ويستهدف اصلاح المؤسسات وتنظيم ممارسة السلطة وليس فقط تحسين شكل المدينة المادى.
قامت الحركة بحملة من أجل تقنين الاستيلاء على المساحات الفارغة في المدن او تغيير استعمالها والتى كان الدلالون او المستثمرون يحتفظون بها بغرض “المضاربة ” وكافحت من أجل اقرار أحقية المواطنين، وليس فقط الأثرياء، فى تحديد شكل المدينة. كما رفضت الحركة فكرة أن المدينة هى مجرد مكان تسيطر عليه المصالح الخاصة للنخبة السياسية الرأسمالية ويتم تقسيمه على أساس الطبقة والثروة,كان هناك الكثير من الجهد الجماهيرى فى البرازيل والذى استهدف جعل السلطات البلدية مسؤولة عن وضع مخطط عام من خلال عملية تشاركية وشفافة امتثالاً للقانون وهو أسلوب يؤدى إلى تعميق الديمقراطية واعطاء المواطنين الفرصة للتأثير على عملية صنع القرارات فى مدينتهم.ورغم أن المشاركة الجماهيرية فى عملية التخطيط قد حازت القبول من جهة المبدأ، فإن وضع مخطط عام بطريقة التشارك قد لاقى صعوبات بسبب عدم تقبل الكثير من السلطات البلدية والمخططين العمرانيين لفكرة المشاركة فى التخطيط العمراني. وقد مارست الحركات الاجتماعية ضغوطا من أجل إلزام السلطات بتطبيق طرق ديمقراطية فى التخطيط، حيث تم تنظيم مظاهرات ونشر بيانات احتجاج ورفع قضايا ضد الهيئات التى ترفض فكرة المشاركة الجماهيرية. وكانت العادة قد جرت على أن من يرسم المخطط العام هم متخصصون فى التخطيط،. ومع أن وضع المخطط العام لا يجب أن يظل حكراً على المتخصصين.
في عام 2004 ، قامت وزارة المدن والمجلس القومى للمدن بتنظيم “حملة توعية وحراك قومي حول طرق تطوير وتنفيذ مخططات عامة تشاركية بهدف بناء مدن تشاركية وديمقراطية ومستدامة”, وبحلول نهاية 2010، كان هناك أكثر من 1.500 مخطط عام قد تم اقراره فى البرازيل.لم تكن حركة الاصلاح العمراني فى البرازيل مجرد حركة نشأت بين سكان المدن من أجل حل مشاكل المدن، ولكنها أعادت التفكير فى الطريقة التى يمكن بها للمواطن البرازيلى أن يعرف ماستكون عليه مدبنته مستقبلا ويشارك فى تحديد مصير بلاده وفى العلاقة التى يجب أن تقوم بين المواطنين والحكومة.
الخلاصة :
- يتضح مما سبق أن أخفاق العديد من مشاريع التنمية الحضرية كانت بسبب غياب أو ضعف دور و فاعلية المشاركة المجتمعية؛ أن كفاءة تمثيل الأطراف أصبحت ضرورية في المشاركة ؛ لتعبر بصدق عن آرائها وتوجهاتها وتحديد احتياجاتها، ومن هنا يمكن القول: أن التطور والتنمية المستدامة لا يتحققان من أعلى فقط وانما تتحقق أيضا من الأسفل بمشاركة مجتمعية فاعلة للمجتمعات المحلية بمنحها درجة من الأستقلال المحلي والفرص الأقتصادية والأجتماعية المتكافئة.
- ان جدﻭﻯ ﺍﻟﻤﺨﻁﻁ تكمن ﻓﻲ مدﻯ ﺇﺴﻬﺎﻤﻪ ﻓﻲ ﺘﻤﻜﻴﻥ ﺃﺼﺤﺎﺏ ﺍﻟﻘﺭﺍﺭ ﻤﻥ ﺍﺴﺘﻴﻌﺎﺏ ﺍﻟﻤﺸﻜﻠﺔ ﻭﺇﺩﺭﺍﻙ ﺃﺒﻌﺎﺩﻫﺎ ﺜﻡ ﻤﺩﻯﻨﺠﺎﻋﺘﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺄﺴﻴﺱ ﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟحوار والتواصل ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺭﺍﺤل ﺍﻟتالية ﻤﻥ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﺘﺨﻁﻴﻁﻴـﺔ .
- كشفت التجربة البرازيلية ان التفاعلات والمشاركة في المناقشات والمعلومات الإضافية والأفكار أثبتت جدواها في عمليةصنع القرارمن خلال التعاون بين المخططين وجماعات المصالح,مما أدى إلى زيادة الدعم الخارجي والذي لا يتم الحصولعليه دون المشاركة الجماهيرية.
- ان هذا ﺍﻟﻨﻭﻉ ﻤﻥ ﺍﻟﻤﻌﺭﻓﺔ ﺍﻟﺘﺨﻁـﻴﻁية التي تؤكد على المشاركة الجماهيرية هي ﺍﻷﻨﺴﺏ ﻭﺍﻷﻨﺠﻊ ﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﺘﺨﻁﻴﻁ,والتييمكن الاستفادة منها محليا في ظل تشابه نوع السلطات والممارسات الديمقراطية وتأثير جماعات المصالح.